كان أدب الحداثة التجريبي، الذي ظهر في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، وتطور في القرن العشرين، فنَّ مدنٍ. كان فنَّ المدن ذات اللغات المتعددة، التي تميّزت بنشاط مكثّف، وحظيتْ بشهرة عالمية كمراكز للتبادل الفكري والثقافي، لأسباب تاريخية مختلفة. وقد تشكّل في هذه العواصم الثقافية (العواصم السياسية القومية الأوربية) جوٌّ غنيٌّ من الفكر الجديد والفنون الجديدة أحياناً، ولكن ليس على الدوام. وجذب هذا التطوّر الكتاب المحليين الشبان والكتاب الواعدين، وشدَّ أيضاً الفنانين والرحالة الأدبيين والمنفيين من بلدان أخرى. وتأسستْ الجمالية الجديدة في هذه المدن، بمقاهيها وأنديتها الليلية ومجلاتها وناشريها وصالاتها الفنية، وتجادلت الأجيال، وتنافست الحركات؛ وصارت القضايا والأشكال الجديدة مسائل صراع وحملات. وحين نفكّر بالحداثة لا نستطيع إغفال التفكير بهذه المناخات المدينية، وبالأفكار والحركات والفلسفات والسياسات الجديدة التي بزغتْ في برلين وفيينا وموسكو وسينت بطرسبرغ عند منعطف القرن وفي السنوات الأولى من الحرب؛ والتي ظهرت في لندن في الأعوام التي سبقت السنوات الأولى من الحرب؛ أما في زوريخ ونيويورك وشيكاغو فقد ولدت أثناء الحرب؛ ولكنها كانت موجودة في جميع الأوقات في باريس.
كانت هذه المدن أكثر من أمكنة للقاءات تتم بالمصادفة ونقاط عبور. كانت بيئات توليدية للفنون الجديدة ومراكز للجماعة الفكرية، وللصراع الفكري أيضاً. وكانت تقريباً مدناً لها دور إنساني راسخ، وفيها مراكز فنية وثقافية تقليدية وأمكنة للفن والتعلّم والأفكار. ولكنها كانت أيضاً بيئات جديدة تنطوي في داخلها على تعقيد وتوتّر الحياة المدينية الحديثة، والتي تشدّد كثيراً على الوعي الحديث والكتابة الحديثة. (1)
حدث دوماً ترابط وثيق بين الأدب والمدن. ففي المدن توجد المؤسسات الأدبية الأساسية: الناشرون والرعاة والمكتبات العامة والمتاحف والمسارح والمجلات، ويجري فيها أيضاً الاحتكاك الثقافي وتتوسّع حدود التجربة وتكثر الضغوط وتولد حالات الجدة وتنشأ المجادلات ويحصل اللهو وتتوفّر النقود ويخضع الأفراد للتغير السريع ويتدفق الزوار ونسمع لغط لغات عدّة وتسود تجارة الأفكار والأساليب وتسنح الفرصة من أجل التخصص الفني.
بيد أن الكتاب والمفكرين كرهوا المدينة لفترة طويلة، وحلموا بالهرب من رذائلها وتوسّعها الفوري اللامنتظم وسرعة خطوها، وكان نمط إنسانها أساس انشقاق ثقافي عميق تجلى في الجنس الأدبي الأكثر استمرارية، الشعر الرعوي، الذي انتقد المدينة واتخذ موقفاً منها، مما جعل الأمر يبدو وكأن أشكال الثقافة وغناها ينتمون إلى خارج النظام المديني. إلا أن الكتاب والمفكرين كانوا يأتون إلى المدينة باستمرار، ويقومون بأبحاث جوهرية في الفن والتجريب والتاريخ الحديث من أجل الاستخدام الأمثل لطاقتهم الفنية. وولّد الانجذاب إلى المدينة والنفور منها موضوعات ومواقف تجريبية عميقة في الأدب، ذلك أنّ المدينة غدتْ استعارة لا مكاناً. وفي الحقيقة، أضحت المدينة، بالنسبة إلى كتاب كثيرين، صِنْو الشكل. هكذا رآها بوب وجونسون وبودلير ودوستويفسكي وديكنز وجويس وإليوت وباوند. ولكن المدينة والأشكال لم يبقوا شيئاً ثابتاً كما توحي قائمة الكتّاب الغنيّة.
إذا كانت الحداثة فناً مدينياً فإن هذا يعود جزئياً إلى أن الفنان الحديث صار، كزملائه البشر، عالقاً في روح المدينة الحديثة، والتي هي روح مجتمع تكنولوجي حديث. واستولت المدينة الحديثة على وظائف واتصالات المجتمع، وعلى السكان والحدود القصوى للتجربة التكنولوجية والتجارية والصناعية والفكرية. وصارت المدينة ثقافة، أو ربما التشوش الذي يعقبها. وباتت المدينة حداثة فعلٍ اجتماعي، ومركزاً للنظام الاجتماعي السائد ومولِّد نموّه وتغيّره.
هكذا امتلك الفن الحداثي علاقات خاصة مع المدينة الحديثة، نظراً لدورها كمتحف ثقافي وبيئة جديدة. وتأصّل الاتجاه الحداثي بعمق في عواصم أوربا الثقافية، كما قال لنا علماء الاجتماع، أي في تلك المدن التي تولت وظائف معيّنة وأصبحتْ مراكز للتبادل الثقافي، وأمكنة يُحافظ فيها على تراثات اختصاصات معيّنة وتتراكم المعلومات الهامّة ويكثر المختصون ويُحبّذ التجديد أكثر. وفي الحقيقة، كانت معظم عواصم الثقافة هذه مدناً حديثة نموذجية، تُحْدثُ التغيّر بقدر ما تولّد الاستمرارية. وكانت بؤراً للنشاط الفكري في وقت اتسعت فيه الأنتلجنسيا، واكتسبت وعياً ذاتياً أكبر كطبقة منفصلة، وشعرت بانفصال متزايد عن النظام الاجتماعي المهيمن، ووجّهت نفسها على نحو متزايد نحو المستقبل والإيمان بالتغيّر. وكانت هذه العواصم بؤراً للهجرة من الريف، وأمكنة للنمو السكاني، والتوترات النفسية الجديدة، والتقنيات والأساليب المبتكرة، ومناخات للتحرر والكشف، في مجتمعات صارتْ أكثر ديموقراطية وضخامة في المرحلة الثانية من الثورة الصناعية. وتحولت أيضاً إلى مراكز أفعال سياسية جديدة وتجمعات. وتبيّن لكثيرين في نهاية القرن التاسع عشر أن المدينة جزء من سيرورة تحلّل كليّ للعلاقات الإقطاعية والطبقية والالتزامات القديمة. وأثرت هذه السيرورة بدورها في الصورة الذاتية للفنانين وشجعتهم على البحث عن الجمال في السياق نفسه من الهرطقة والتحلل اللذين نربط بهما المدينة كما قال فردناند تونيز.( 2)
لم تكن مصادفة أن القرن التاسع عشر كان القرن العظيم للتمدّن الغربي. ففي ذلك القرن، وبعد أن تحرر الكتاب والفنانون من الاعتماد على رعاة وطبقات ثقافية معيّنة في الجمهور الكلي وَجدوا أنفسهم في موقع يتميّز بالاستقلالية وغياب الهويّة الاجتماعية، وهو ما ندعوه اليوم بالاغتراب. وليس من قبيل المصادفة أيضاً أن المدن، كتجمّعات ضخمة للبشر في أدوار ومواقف متغايرة جداً، وكأمكنة للاحتكاك والتغيّر والوعي الجديد، تزامن نموّها مع رغبة بالجدّة الثقافية القصوى والإحساس بأزمة في القيم والتعبير أثرت في الفنون بصورة خاصة.
وفي الولايات المتحدة الأميركية، حيث تمكن رؤية ظاهرة التمدّن السريع في أشكالها الأكثر تطرّفاً، دعا جوسياه سترونغ المدن الحديثة، بمشكلاتها الاجتماعية القائمة ومصهر طبقاتها وسلالاتها وتغايراتها الاجتماعية ومزيجها الداخلي من التوقع وخيبة الأمل ونموّها الغامض "مراكز الحضارة العاصفة". وهكذا كانت هذه المدن: تُبدع الحضارة والثقافة وتدمّرهما في آن واحد معاً. أما الأصداء الشكلية للسيرورة فهي واضحة في شكل الفن الحداثي وغياب الشكل فيه وفي إبداعه وهدمه.
وتم التعبير في احتمالية نصوص الكتابة الحداثية وتعددها، وفي تصميم اللوحة الحداثية وشكلها، عن الفوضى الثقافية التي ولّدتها المدينة المزدحمة بالسكان والمتنامية على الدوام، برج بابل كثير اللغات والطارئ. ولم يكن فن الحداثة هو الفن الوحيد الذي وصل إلى هذه الحالة، فحالات الوعي هذه موجودة في الواقعية والطبيعية، ويمكن القول إن احتمالية المدينة الحديثة العصية على التعبير لعبت دوراً كبيراً في صعود الجنس الأدبي الأكثر واقعية وتحرراً وبراغماتية بين الأجناس الأدبية، وأعني الرواية. فقد صوّرت الرواية البيئة الخارجية، وحركة الجماهير، وعبرت عن الحياة الحديثة للمدينة وقواها. ونجد لدى ستاندال وبلزاك وديكنز وزولا ودوستويفسكي وستيفن كرين، مثلاً، أن الشكل الروائي يوسّع الاستعارة المدينية، أو يعبّر عن التجربة المدينية، من خلال موقف الصحفي والعالم الاجتماعي، والنبي الرؤيوي أو السريالي، ورجل الأقبية، هذه المواقف التي يمكن أن تسبر على نحو أفضل الاحتمالية والتنوّع ومبادئ الصراع والنمو في الحياة المدينية.
وقد قال جورج جيسينغ:"مقدّر عليّ أن أكون في لندن، لأنني يجب أن أبذل جهوداً كبيرة كي أجمع مادة جديدة ما”. وكانت المدينة مادّية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، إذ إن خصوصيّتها تولّد شكلاً فنياً. (قال زولا:"تؤلّف القصة نفسها وتحقّق الانسجام من خلال الملاحظات المجموعة، إذ إنّ كل ملاحظة تقود إلى أخرى عبر التحكم بالشخصيات، والخاتمة ليست إلا نتيجة طبيعية ومحتّمة). على أي حال، تبدو الحداثة وكأنها تطرح "النتيجة الطبيعية والحتمية"، كي تحلّ محلّ المدينة الحقيقية، البيئة المهيمنة مادياً للمؤسسات الصناعية الصغيرة والفنادق وواجهات العرض، التي يرى زولا أو دريسر، مثلاً، أنها الميدان الكلي للفعل والإرادة والرغبة البشرية، المدينة "غير الحقيقية"، مسرح الفجور والفنتازيا، والذوات الفردية الغريبة في تجاورات غريبة التي عبّر عن هويتها غير المستقرة أو المحسومة كلٌّ من دوستويفسكي وبودلير وكونراد وإليوت وبايلي ودوس باسوس. وكما يقول لنا ريموند وليامز، إن الرواية المدينية الحديثة تكشف وعياً "متوتراً ومتشظّياً، ذاتياً فقط، ولكنه في شكل ذاتيته يتضمن الآخرين، الذين هم الآن، مع أبنية وضجيج ومشاهد وروائح المدينة، أجزاء من هذا الوعي الفردي والمتنافس”.( 3) إن الواقعية تؤنسن فيما الطبيعية تُعلمن (من العلم)، ولكن الحداثة تُعدِّد (من التعددية)، وتُسَرْيِل (من سريالية). وفيما نرى أن المدينة في كثير من الفن الواقعي تخم متحرر، نقطة عبور إلى احتمالات تكتنفها آمال، وفيما نراها في كثير من الأدب الواقعي نظاماً شاملاً ينبض بالإرادة البشرية ويتجاوزها في آن، وغابة وهاوية أو حرباً، فإنها في الأدب والفن الحداثيين بيئة الوعي الفردي، الذي يومض من تحت الأرض، "المزيج الداعر لكل شيء" بحسب كوربييه وإليوت.(4)
تمتلك الكتابة الحداثية ميلاً كبيراً إلى الإحاطة بالتجربة داخل المدينة، وجعل رواية المدينة أو قصيدة المدينة أحد أشكالها الرئيسية.( 5) وعليه، إن “ذكريات من منزل الأموات” لدستويفسكي، و”الجوع” لهامسون، و“الأميرة كاساماسيما” لجيمس و”ماغي” لهام، و”ألكساندبلاتس” لدوبلن برلين، و“سينت بطرسبرغ” لبايلي، ورواية “العميل السري” لكونراد وقصيدة “هيو سيلوين موبرلي” لباوند ورواية ”ذئب البوادي” لهيسّه، وقصائد ماياكوفسكي ورواية “تريست” لسفيفو، وقصيدة إليوت “الأرض الخراب”، ورواية فرجينيا وولف “السيدة دالاوي”، وملحمة وليم كارلوس وليامز “باترسون”، ورواية “الغثيان” لسارتر، كل هذه الأعمال تنتمي إلى الأنواع الحداثية. وما يمتلك أهمية خاصة لديهم هو موضوع الطبيعة المدينية المغرية للمشهد الذي نعيش فيه، والذي توجد فيه المدينة، حيث فُرض علينا،"نسق حياة مبنيٍّ على مبدأ جديد كلياً"، يميل إلى جعل الفنان الحديث محلياً في المدينة، ليس لأنها مادته الحديثة، بل وجهة نظره الحديثة. واتخذ قسم كبير من الفن الحديث مواقفه، وحصل على منظوراته من مسافة معيّنة، كموقف المنفي، وحافظ على مسافة من الأصول المحلية، والانتماءات الطبقية، والالتزامات والواجبات المحددة لأولئك الذين لهم دور محدد في ثقافة متماسكة. وبانخراطه المتزايد في المدينة صار الفنان يقترب من وضعية المفكر.
وكما صارت الأنتلجنسيا الحديثة تشبه التجمّع اللاطبقي، وميالة إلى الجدّة، وتحاول أن تطوّر الوعي، وتروم تقديم نظرة عامة مستقلة ومستقبلية، هكذا صار الفنانون الحداثيون، الذين انفصلوا في غالب الأحيان، مثل ستيفن ديدالوس، عن الأسرة، والسلالة والدين لتوليد الوعي الذي لم يُبتكر لسلالتهم. وشجّع هذا كثيراً التساؤل الجمالي المتخصص، والاهتمام الهوسي بالصنعة والشكل، الذي يميّز جزءاً من الحداثة. وشجّع على استقصاء البيئة الاجتماعية التي خرجت منها الجدة الثقافية. وإذا كان أحد موضوعات الأدب الحداثي الانفصال والضياع، فإن الموضوع الآخر هو التحرر الفني، وهكذا لم يكن ديدالوس في “صورة الفنان شابّاً” هو الوحيد الذي أعلن الانفصال، بل هناك أيضاً بول موريل في رواية “أبناء وعشاق”، وجورج ويلارد في “واينسبرغ أوهايو”، وكثير من الأبطال الأدبيين الآخرين الذين قاموا في نهاية قصتهم بإعادة تعريف المدينة كأن البحث عن الذات والفن لا يمكن أن يتحقّقا في الوهج والانكشاف الوجودي للمدينة، حيث، كما عبّر جوليوس هارت عن ذلك في عبارة جميلة في قصيدته رحلة إلى برلين:"يولد المرء بعنف في برية الحياة”. (6) إن هذه الحبكة هي التي تعيد الفن إلى المدن، والمدن إلى الفن. ذلك أن الحداثة فن مدينيّ، أي فن مجموعة، فن تخصصي، فن فكريّ، فن لنظراء المرء الجماليين؛ إنه فن يعيد، من خلال السخرية أو المفارقات، سلطة الحضارة. وليست الحداثة مجرد فن مديني فحسب بل هي فن عالميّ: مدينة تقود إلى أخرى في الرحلة الجمالية المتميّزة إلى تحوّل الشكل. ويمكن أن يتمسك الكاتب بالمحليّة، كما تمسّك جويس بدبلن، وهمنغواي بغابات ميشيغان؛ ولكنه يُدرك من مسافة منظورَ منفيّ الجمالية العالمية.
وقد يكون نوع الفنان الحداثي الذي عدّه جورج شتاينر مميِّزاً لعصرنا في كتابه “خارج الأرض” (1972) الكاتب "الذي لا منزل له"، الذي يتصور اللغة كمتعددة لغات، كما فعل وايلد حين كتب “سالومي” بالفرنسية، وكما فعل باوند في استخدامه للغات عدة في النص، وكما فعل بيكيت ونابوكوف، اللذان كتبا في أكثر من لغة واستقصيا طبيعة اللغة وعلاقتها بالواقع.(7) وهكذا نرى على نحو متكرر أن الهجرة أو المنفى هما اللذان يمنحان العضوية في بلاد الفنون الحداثية، والتي أدمن كثير من الكتاب العظام مثل جويس ولورنس ومان وبريخت وأودن ونابوكوف السفر إليها. إنها بلاد اكتسبت مشهدها الطبيعي، وجغرافيتها ومراكز جماعاتها، وأمكنة المنفى كزوريخ أثناء الحرب العالمية الأولى، ونيويورك أثناء الحرب العالمية الثانية. وصار الكاتب نفسه عضواً في جماعة متجولة باحثة عن الثقافة من خلال المنفى القسري (مثل نابوكوف بعد الثورة الروسية) أو من خلال التصميم والرغبة. ويمكن أن يصبح مكان صناعة الفن مدينة مثالية بعيدة، حيث يكون المبدع مركز اهتمام، أو تكون الفوضى مثمرة، ويتدفق “عالم الروح”. هكذا عبّر جورج مور عن روح أثرت في كثير من معاصريه الإنكليز في أواخر القرن التاسع عشر(8):
“فرنسا! لقد سمعتُ رنين العالم في أذنيّ وبهر ضياؤه عينيَّ. فرنسا! استيقظت حواسي كلها من سباتها كطاقم السفينة حين يصيح المراقب:"وصلنا إلى اليابسة!" عرفت مباشرة أنني يجب أن أذهب إلى فرنسا، وأعيش فيها، وأحصل على الجنسية الفرنسية. لم أعرف متى وكيف، ولكنني عرفت بأنني يجب أن أذهب إلى فرنسا…"
صاغت جرترود شتاين العبارة الملائمة:"يجب أن يكون للكتّاب بلدان: واحد ينتمون إليه وآخر يعيشون فيه"، وأضافت موضحة انتماءاتها الخاصة:" إن أميركا هي بلدي الذي جئتُ منه وباريس هي وطني الذي أسكن فيه”.( 9) إن البلد الذي يلجأ إليه الفنان يعالج النزعة المادية الطاغية للبلد الآخر، ويمنح شكلاً للمادة؛ فالعاصمة الثقافية هي الأكاديمية التي تشحن قدرة الفنان الحديث على العمل. وكانت العاصمة القومية هي التي تجذب الكتّاب للمجيء من داخل البلاد في بعض الحالات، وكانت العاصمة تنتقل في حالات أخرى إلى مكان آخر ثانية: برلين وباريس للكتاب الاسكندنافيين والروس، باريس للكتاب الأميركيين في العشرينيات.
ويستطيع المرء أن يرسم خرائط تُظهر المراكز والمناطق الفنية، والتوازن العالمي للقوة الثقافية، وهو لا يشبه توازن القوة السياسية والاقتصادية رغم أنه يتصل به على نحو معقّد من دون شك. وتتغيّر الخرائط كما تتغيّر الجمالية: إن باريس هي مركز الحداثة المهيمن بكل ما للكلمة من معنى، كنبع للبوهيمية والتسامح ونمط حياة المهاجر، ولكننا نستطيع الإحساس بانحدار روما وفلورنسة، ونهوض ثم سقوط لندن، وطور هيمنة برلين وميونيخ، وانفجار الطاقة القوي من النروج وفنلندة، والإشعاع القادم من فيينا كمراحل جوهرية في الجغرافيا المتبدّلة للحداثة، التي رسمتها حركة الكتاب والفنانين، وتدفق أمواج الفكر، وانفجارات الإنتاج الفني المهم.
وتتوضع في المدن الكبيرة قرى مدينية للفنون، وأمكنة للبوهيميين وحارات يتم السعي فيها وراء الوظيفة الجمالية كمونتبارناس وسوهو وقرية غرينيتش. ومن الملائم هنا تعريف روجر شاتوك الدقيق للمناخ في دراسته للحركة الطليعية الفرنسية، “سنوات المأدبة”، فهو يتحدث عن "محليّة عالميّة" لهذه الجماعات(10)، وهي عالمية لأن تأثيرها شعّ وحافظت على التواصل، وبسبب تأثير التواصل والاتصال صارت الحداثة حركة عالمية. ولم تعتمد كثيراً على الفعل في مدن معيّنة فقط بل أيضاً على استعداد الكتّاب لمواصلة الرحلة إلى المدينة التي بدأوها عبر مدن كثيرة. وهكذا فإن جرترود شتاين، التي انتقلت من الولايات المتحدة إلى باريس في 1903، ثم غدت بعد عشرين عاماً مؤثرة بقوة في جيل متعاقب، ربطت الرواية الأمريكية بالتكعيبية. وبصورة مشابهة، ربط ستريندبرغ، الذي انتقل إلى الجنوب، المسرح الاسكندنافي بالتعبيرية في أوربا الوسطى. وأطلق الأميركيون المنفيون التصويرية قبل الحرب، كما أطلق المنفيون من ألمانيا وأمكنة أخرى في زوريخ الدادائية.
وصارت باريس مدينة الحداثة الأولى في العشرينيات، وجذبت المهاجرين الروس، والدادائيين من زوريخ، وجيلاً كاملاً من الكتاب الأميركيين الشبان من ذوي الميول التجريبية. وحافظت المؤسسات الثقافية المرنة على المناخ الذي كان يحتاج إليه الكتاب الشبّان على نحو ملائم وشبه دائم، رغم التدهور الاقتصادي والأخلاقي بعد الحرب. والواقع أنها صارت بفوضاها واستمراريتها المدينة العالمية المثالية، المثقفة والمتسامحة، المحمومة والنشيطة، الجذرية ولكن المحتواة. وإلى حد ما، ورثتْها نيويورك بعد نشوب الحرب العالمية الثانية. ولكن الحداثة لم تكن حكراً على مدينة واحدة، فقد ساهم في تقطيرها كثير من العواصم والأمم والمساعي والأمزجة الفكرية والجمالية المختلفة.
ترجمة: أسامة إسبر
هوامش
1- ناقش هذا الموضوع مورتون ولوسيا وايت، المفكر إزاء المدينة (كمبردج، ماس، 1962).
2- فرديناند تونيس، Gemeinschaft und Gesellschaft (لايبزغ، 1887). ترجمه تشارلز بي. لوميس بعنوان الجماعة والترابط (لندن 1955).
3- ريموند وليامز، الرواية الإنكليزية من ديكنز إلى لورنس (لندن 1970). يوسّع وليامز نقاشه بشكل قيّم للموضوع في كتاب “البلاد والمدينة” (لندن 1973).
4- حول الموضوع المديني والقصيدة المدينية، انظر خاصة مونرو كي. سبيرز، ديونيسوس والمدينة: الحداثة في شعر القرن العشرين (نيويورك ولندن 1970”). انظر أيضاً مناقشة فرانك كيرمود لـقصيدة “الأرض الخراب” كقصيدة تقارن بين مدينتين في مقالته "ت.س. إليوت"، في مقالات في الحداثة (لندن 1971).
5- من أجل المزيد من التعليقات انظر المقالات التي في هذا الكتاب التي ألفها جورج هايد (شعر المدينة) ودونالد فانجر (مدينة الرواية الروسية الحداثية).